فهمت من سخريتها ان الباب لا يفتح الا لذي شأن كبير، ومن بعيد لمحنا فتاة وشاب اقتربا منا، واشارا لنا ان نذهب معهم . سارا امامنا ونحن خلفهما في طريق في وسط حديقة كبيرة ، وكانا يتحدثان ويتمازحان ويتضاحكا بلغة لم اسمعها من قبل، ولم افهمها فسألت مرح: ـ ماذا يقولون؟؟
قالت لي: ـ "وماذا يعنيك ذلك, انت فضولي اكثر من اللازم، انهما يتحدثان بامور غير هامة ,ماذا تريد، ان اترجم لك؟ حاضر يا حسن : هي تقول له انها ستذهب مع صديقتها غدا ,وهو يقول لها : لا تنسي ان تخبريها بما اتفقنا عليه .وهي تقول:كلا لن اقول لها. وهو يرد عليها: لن تفعلي هذا بي وهي تقول حتى ترى، وهو يهمس بأذنها وانا لم اسمع ما همس به ، ولا استطيع ان اترجم، وهي ترد طيب حتشوف، وهو بيضحك والضحكة ليست بحاجة الى ترجمة، وكذلك هي تضحك، هل تريد ان اكمل لك ترجمة ما يقولانه؟ هل الامر مهم؟"
قلت لها: ـ لا شكرا، لقد فهمت بما فيه الكفاية . بعد عشرة دقائق من تحركنا، وصلنا الى بيت كبير وكـأنه القصر، ولكن ما لفت الانتباه ان هذا البيت مصنوع من الزجاج بكامله، الابواب الجدران الشبابيك السقف، وكذلك الارض مرصوفة بزجاج...فتح لنا الشاب البوابة ,وقال: ـ تفضلوا ... دخلنا البيت، وعاد الشاب والفتاة من حيث اتيا، يتمازحان ويضحكان ويتحدثان بلغتهما الغريبة , اخذت اتأمل البيت، وكأنه اية في الجمال والذوق الرفيع، جلسنا على المقاعد لعدة دقائق، حتى اقبل شاب يرتدي الاسود بالاسود، اقترب منا ودون ان يتكلم, وبأشارة من يده فهمنا انه يطلب ان نرافقه. سرنا خلفه عبر ممر واسع الى ممر ضيق، ودخلنا صالة ضخمة مليئة بمئات المقاعد ونوافير الماء ,قاعة من الكبر بحيث تتسع لألف شخص مجتمعين معا ,والغريب ان البيت حجمه من الخارج، لا بدل على انه يتسع لمثل هذه القاعة. اشار الشاب الاسود لنا باشارة فهمنا منها انه يطلب منا الانتظار, انتظرنا خمس ساعات ، وبعد ذلك حضرت الينا فتاة وطلبت منا ان نرافقها, سرنا معا ما يقارب النصف ساعة بين ممرات وصالات ضخمة تبهر الابصار بجمالها، وكأن هذا المكان يسكنه الملوك . وصلنا الى حديقة ضخمة لم ار في حياتي ولا في احلامي اجمل منها، باشجارها وبأزهارها وبتناسقها، والعجيب ان هذه الحديقة لم تكن خارج البيت بل داخله, وهناك طلبت منا الفتاة ان ننتظر ,وعادت من حيث اتت، وما كادت تغيب عن ابصارنا حتى حضر شخصان يبدو عليهما انهما قد بلغا السبعين من العمر. تحدث احدهم وطلب ان نرافقه, سرنا لاكثر من ساعة بين اشجار طويلة وعملاقة، لم استطع ان اميز اين يصل ارتفاعها، لا ادري هل هذا بسبب الظلام، ام انها نمت داخل هذا البيت العجيب؟ بطريقنا نور يضيء المكان بلون اخضر لا ادرك مصدره، ربما كان انعكاس الشمس على لون الاشجار الخضراء لينعكس هذا النور ..دون سابق انذار او رؤية مسبقة وجدنا انفسنا امام سورحجري لا اول له ولا آخر، ولا تصل رؤية العين الى اين ينتهي طوله او ارتفاعه، طلب منا احد الرجلين ان ننتظره، وعادا من حيث اتيا... السور مبني من حجارة عملاقة، وباشكال هندسية جميلة ذات الوان داكنة، فن معماري دمج فيه الماضي بالحاضر، احجار برزت، واحجار مالت من جانب متقاربة ومن جانب متباعدة، وانا أتأملها، فجأة، تحركت سبع حجارة من الصف السفلي للسور، محدثة صوت صرير قوي، وفتحت من خلفها سبع بوابات، وكان هاتفا نادانا ان ندخل، او قوى خفية دفعتنا للدخول خلف النور المنبعث من داخل الابواب، دخلت من بوابة دون قرار مني، وكذلك فعلت مرح، ودخلت من بوابة اخرى غير التي دخلت منها، ووجدنا انفسنا خلف السور، ولم يكن من الممكن ان نرى شيئا بسبب الضباب الكثيف الذي ملأ الجو. لم اكن ارى مرح، واظن انها ايضا لا تراني .. بدأ الضباب يتلاشى، و الشمس تظهرمن وسط السماء لتملأ المكان نورا، لم تحتمل عيوني نور الشمس الساطعة, فوضعت كفاي على عيوني لاحميهما من اشعة الشمس، خاصة واني لم ارها منذ وقت ليس بقصير، حرارة الشمس اقوى من التي اعتادها جسمي، وكان المكان اقرب الى الشمس من أي مكان اخر على الارض. ظهر هذا على الارض المحروقة الخالية من أي نوع من انواع الحياة، والممتدة على طول البصر، لم يكن هناك ظل نستظل به، حتى السور لاظل له، وظله بالاتجاه الاخر للسور . الابواب التي دخلنا منها اغلقت من خلفنا، ولم نعد نستدل مكانها. نظرت الى مرح ونظرت الي، ونفس السؤال عندي وعندها، هل هذه هي النهاية؟ لم تتأثر مرح من حرارة الشمس، انما نور الشمس الساطعة لم تعد تحتمله اكثر، فهي تهرب بعيونها وتخفيها، وتبذل كل الجهد لتحمي عيونها، وكان عيونها لم تعتد مثل هذا النور، فقلت لها: ـ هل خدعونا ليوصلونا الى هذا المكان؟ وهل هذه ارض جهنم التي سمعنا عنها؟ ـ "لا اعتقد ذلك، لو ارادوا ايصالنا الى هذا المكان لفعلوا هذا منذ البداية بلحظات دون عناء، اصبر لنرى ماذا سيحدث".
ـ لا اعتقد اني سأحتمل اشعة الشمس لساعة واحدة. ـ "لا خيار امامنا الا الانتظار والصبر، فلا مكان نذهب اليه وانا اعاني ما تعانيه وربما اكثر منك، فانا لم اعرف الشمس طوال حياتي ،ولا استطيع ان احبها الا في الظل، فان كانت قدرة احتمالك للشمس ساعة فقدره احتمالي لها اقل من ذلك بكثير". ـ يبدو انهم عمدوا الى ذلك حتى نذوق نفس العذاب". فردت:
ـ " لا اعتقد انهم يسعون الى ذلك". لم اعد احتمل، وكذلك مرح، اردت الجلوس على الارض ولم احتمل حرارتها، وفضلت الوقوف، نظرت من حولي ووجدت ان الارض قد تغيرت، ملامحها سوداء جرداء محروقة، حتى الصخر والحجر لم يخف ما حل عليه من فعل الشمس، انها لا بد ان تكون ارض جهنم الجرداء الحارة اللا متناهية. قلت لمرح: ـ لما لا تخلعي ثوبك لنرفعه بايدينا ونستظل به من الشمس وتحمي عيونك، فحرارة الشمس لا تؤثر بجسدك مثلي انا.
فابتسمت وهي تظلل عيونها بيديها وقالت: ـ" ا ن طلبك مهين" .
ـ وما الاهانة في طلبي، اتخجلين؟!!
ـ " لو اني لا اعرف مدى سذاجتك لرددت عليك الرد المناسب". فوجدت في هذا الحديث متعة قد تستطيع ان تلهيني عن العذاب الذي انا فيه، واردت ان اكمل حديثي الا ان انفتاح باب بالسور لفت انتباهنا وقطع حديثنا، انفتح باب من السور وخرج منه رجل طويل القامة، في ملامحه القوة والشدة والحزم، وكأنه قائد جيوش العالم، سار باتجاهنا وطلب منا بلهجة الامر ان نتبعه. كان يسير وكأن الارض ترتعد من تحت اقدامه... تبعناه المسافة تزيد عن المئة متر، فوجدنا انفسنا تحت ظل يحجب الشمس، وكان هذا الظل مظلة خفية لم نكن لنرها، وتحت هذا الظل طاولة شبه مستديرة، ومجموعة من الكراسي يزيد عددها عن عددنا، مصنوعة من الحجر الاحمر من الرخام، طلب منا ان نجلس، او بالاحرى، امرنا بحزم ودونما مجاملة ان نجلس ، جلسنا وكان الجو رطبا، فاردت ان اساله، ولكن قبل ان انطق الكلمة الثانية بعد الاولى قال لي بطريقة تحقيرية: ـ " اصمت ولا تتكلم".. تغيرت ملامح مرح وبدا عليها الامتعاض للطريقة التي عاملني بها، وظهر الكبرياء المعتاد في عيونها، ربما كان هذا لانها شعرت بانه سيعاملها بالمثل لو انها تكلمت ، نظر الينا هذا الشخص وقال:
ـ "انا "برصاد" الحارس الاول لهذا السور، والمساحة التي يمتد اليها ظله، وانتم الان تجلسون في منطقة مسؤوليتي، ولم يحدث منذ ان استلمت قيادة السور ان استطاع احد ان يخطو خطوة واحدة خلفه، او حتى يلمسه من الخلف أيا كان ومن أي عالم كان، وكان يكفي التفكير في ان يجتازه احد لتكون نهايته، ولكن لقد صدرت لي الاوامر ان اسمح لكم بدخوله، وبرغم ان هذا يؤلمني الا اني نفذت الاوامر، وكنت اتمنى لو انكم وصلتم الى هنا ولم تكن هناك اوامر تقيدني، لكنت جعلت منكم شيئا من لا شيء، و"صراره"(بحصة) صغيرة في احدى حجارة هذا السور، واتمنى ان تسنح لي الفرصة يوما لالقاكم من جديد، وتكون لي الحرية لافعل بكم ما اشاء، والان اطلبوا ما شئتم مما استطيع ان انفذه وارحلوا من هذا المكان، واني احذركم، بانه لو غربت الشمس واشرقت ،وانتم لم تتجاوزوا حدود ظل السور فساعيدكم الّي لتعرفوا من هو "برصاد"، سأعيد عليكم كلامي حتى يكون واضحا، وان لم تفهموا شيئا فأسالوا حتى تفهموا، غدا حينما تشرق الشمس سيكون للسور ظل، ولو كانت قدم احدكم ما زالت على الظل فان لي الحرية لاعيدكم وافعل بكم ما اشاء، هكذا هي الاوامر، وانا اتمنى ان لا تنجحوا وتتخطوا ظل هذا السور، حتى استطيع ان استضيفكم في جهنم "برصاد"، افهمت يا حسن يا ابن صفية، ويا "كونته" ابنة نازك"؟ فهزت مرح راسها باستخفاف وكانه لم يعجبها ان يخاطبها باسمها الحقيقي. فرد اليها هو ايضا النظرة بنظرة اشمئزاز وقال: ـ "الان ساحضر لكما الطعام والشراب ،لان جسدكم سيحتاجه في هذه البقعة".. وبعد لحظات حضر عدة اشخاص يحملون في ايديهم اطباقا مختلفة فيها من جميع اصناف الطعام الذي اعرفه، وفي اطباق اخرى طعام لم اعهد مثله من قبل، وضعوا الاطباق على الطاولة وانصرفوا دون كلام، وكنت فعلا قد شعرت بالجوع والعطش منذ لحظة خروجي من السور، وكأني عدت الى وضعي الطبيعي، الاطباق والشراب التي امامي كانت تختلف عن تلك التي وضعت امام مرح، بدأت اكل بشراهة واشرب ولا ابالي بوجود احد، وبعد ان اخذت حاجتي من الطعام والشراب لفت انتباهي ان مرح لم تمد يدها الى شيء، بل التفتت الى الاتجاه الاخر شاغلة نفسها بالعبث بشعرها، وكانه لا يهمها احد او شيء، فالتفت اليها برصاد وقال : ـ "كلي يا "كونته" هذا الطعام الذي اعتدت عليه بعالمك، انا اعلم انك بحاجة اليه". رفعت مرح حواجبها وزمت شفتيها وحركت عيونها باستخفاف كبير "ببرصاد" ، تنهد برصاد وقال: لست الا حشرة مغرورة ... ووجه حديثه لنا الاثنين : ـ "هل تريدان شيئا قبل ان اذهب "؟ قلت له :
ـ اريد ان اعرف الى اين تصل حدود ظل السور ؟
قال لي : ـ " اعرف بنفسك "!!
قلت : ـ نريد سيارة نقطع بها المسافة. ضحكت مرح من كلامي بطريقة استفزت برصاد، وعلمت فورا ان طلبي سخيف، فنظر الي وقال: ـ " لا توجد سيارات ". قلت : ـ اذا مظلات وماءاً وطعاماً وملابس تلائم المكان .. والتفتت الي مرح لفتة سريعة فهمت منها انها تريد ان اطلب لها شيئا حتى لا تطلبه هي منه .
قلت : ـ وشيء يقي عيون مرح من الشمس .
ابتسم برصاد وقال: ـ "ساحضر ما طلبته ولكن لن تحتاجونه". قلت : ـ بأي اتجاه يجب ان نسير ؟ قال: ـ "بأي اتجاه معاكس للسور سيروا". قلت : ـ هل مسموح ان نطلب جمالا نركبها؟ ضحكت مرح مرة اخرى من طلبي ...وقال برصاد: ـ "هل هناك شيء اخر "..؟
فكرت قليلا وقلت له: ـ "لا تنسى ان تحضر علبة سجائر وولاعة". ضحكت مرح بصوت عال، استفزت برصاد، فقال كاتما غيظه: ـ "ساحضرها لك". قلت له لا شعوريا : ـ " مارلبورو " اذا سمحت. ولكن كلمتي التي لم اقصد بها شيئا جعلت مرح لا تتمالك نفسها من الضحك، حتى كادت تسقط من على الكرسي ، ووقف "برصاد" على قدميه .. وقد خيل لي انه سيمسك مرح من شعرها ويرفعها عن الارض، ثم يلقيها ثم يدوس عليها بقدميه، لكنه تمالك اعصابه وغضبه، وتعمدت مرح ان تستمر بالضحك اكثر واكثر. قال "برصاد": ـ "الان ساذهب، واتمنى ان القاكم مرة اخرى "... سار "برصاد" باتجاه السور ومرح لا تزال تضحك وترفع صوتها. وما ان اقترب من السور حتى نادت مرح عليه وقالت : ـ لا تنسى " المالبورو" ... ـ مصاحبة الكلمة بضحكة متواصلة ـ والتفت "برصاد" الى مرح والشرر يقدح في عينيه، ودخل البوابة التي ظهرت من السور، وبعد دقائق خرج من السور عدة اشخاص، واحضروا ما طلبناه، وعادوا دون كلام، الا ان مرح قالت لهم وهي تضحك :
ـ "سلموا لي على "برصاد"". والتفتت الي مرح وقالت: