موعد الرمال*
(قصة شعبية من تراث الجزيرة العربية)
قالت لنفسها: مؤكد
أنهم تاهوا في هذه الصحراء المترامية، وربما تعطلت بهم السيارة، وانغرزت عجلاتها في
الرمال.. انكسرت الشمس نحو المغيب وبدأ البرد يتسلل إلى ذرات الرمل الناعمة في هذه
الصحراء، تتلاطم الرمال في كل الجهات، تطوف الرياح على أطرافها فتُحدث صوتًا يُدندن
كاللذعة الخاطفة.. نفد الماء الذي كان معها، شعرت بالخوف يتكوّر كالثعبان حولها،
هاهو الكون الأصفر يرسم أشباح المساء الكئيب، لكنها تقف بجوار الجمل الأوضح وتحسّ
معه بذبذبات الطمأنينة، مازالت تُسلّي نفسها وتدفن مخاوفها عن ذاتها؛ تتسلى
بالذكرى، لكنها ذكرة معوّقة لا تسمح للذهن بالاسترسال لأن عقلها يراقب زمنًا كاللهب
الذي تذوب فيه كل الذكريات ويتشتت الوعي بإرادة خفية قاسية تُجبرها على الألم
السري. تشعر بأن أعصابها متوترة، تودّ الاسترخاء، فتجلس على الرمل الوثير، وتمدّ
قدميها في محاولة لابتلاع القلق الذي يضرب على أعصابه بمعاول مدببة وحادة.. تعبث
يدها في الرمل وهي تتابع الأفق الذي يتمزق الضباب في أرجائه وتتوزع فيه قطع ذابلة
من الغيم الخفيف، تُنصت للأصوات البعيدة التي تحملها الرياح، تتوثب لترى وكأن صوت
سيارة بدأ يخترق الصمت.
وقفت تحدّج في الغروب وتضع كفها اليسرى على جبهتها
وقاية لعينيها من شعاع الشمس المتناثر عساها ترى بوضوح. تحركت دون أن ترى شيئًا، ثم
عادت للجلوس بعد خيبات متوالية تترقّب فيها سيارة والدها من بعيد ثم لا تلبث أن
تعود كالوهم. إنّه السراب الصوتي الذي ثبته الصحراء؛ إنها لا ترى سراب الماء لكنها
تسمع الآن صوتًا قويًا كأنه قادم من خلفها، وقفت وهي تُصيخ السمع وفي هذه اللحظة
لاحظت زوال كثيب الرمل الذي كان خلفها ورأته يزحف بعيدًا عنها، فدبّ الرعب في جوفها
وهي تُلاحظ طي الكثبان وتحوّلها ونشوء كثيب آخر هناك لم يكن موجودًا قبل الظهر..
قالت لنفسها: ربما غيّرت الرمال معالم وجودي فَتَاه أهلي في الصحراء ولم يعثروا على
مكاني، آه لو أني ذهبت معهم! لو جلس معي أخي.. لو.. لو.. لو .!
شعرت برغبة
في البكاء وهي تمسح بيدها على الرمال وتخطط عليه بهدوء، تودّ الصراخ عساها تتخلّص
مما يُكدّر خاطرها؛ تودّ أن تزفر همومها معًا وتُنهي لحظات الخوف والشقاء، أطلقت
صوتها بالغناء الخفيف:
يا عين وين الناس وين المحبين
راح النهار
وعزوتي مالفوني
كان اللحن يتماوج مع التيار الصحراوي؛ وكأنّ الرمال تُقدم له
توقيعًا بطيئًا، يسري هذا اللحن فوق قمم الرمال المتحركة ويمسح أعاليها مع الريح
بلطف ووداعة:
يا عين كان الليل يضوي على البين
يا علّ عمري للتلف
والشطوني
قم ياسمي الليـــــــل وانص البعيدين
عســـــــاك تلقى حروةٍ من
ظنوني
تشتد نبرة اللحن وتزداد حركته مع ارتفاع صوتها بالغناء وهي تستطلع
السماء وتستمطر الأفق الباهت، تستجدي الأخبار عن أهلها الذين تركوها منذ الصباح
وذهبوا لإحضار الماء، تبكي مع اللحن الصادر من الأعماق؛ لقد كان اللحن يُلامس مواجع
الروح ويُحرّض السأم على الالتفاف عليها في صراع مرير:
يا ويل حالي صرت مثل
المجانين
أصيح بأعلى الصوت والموت دوني
الله يا ربي عسى الستر يتلين
وش
حالتي والليل والهم عوني
ارتمت على الأرض بكامل ثقلها، اخترم الحزن والتعب
جسدها، كلّت قدماها من الوقوف المضني، غاصت عيناها في الشفق، تُحدّق بأقصى ما
تستطيع لتُمسك بأهداب اليوم المنصرم، شعرت أن برودة الرمال تنفذ إلى جسدها الغضّ،
ثمة تيار هوائي يلسع أذنيها وأنفها ويخترم ظهرها كالمسمار.. استرخت في إعياء شديد
والتفّت حول العفش المتناثر وعيناها تلمحان الجمل الصغير المنشغل بالبحث عن العشب
هناك.. عادت إليها الخواطر ممزقة مبتلة بالأكدار؛ استعادت يومها من بدايته، كانت
المسافة التي قطعوها طويلة ولا تدري كم تبعد الآن عن البلدة؛ ترآءت لها آمال خضراء
داكنة برؤية أبيها وأخيها بعد لحظة.. ولم تستمر الصورة إلا وقد امتلأت بوهج صورة
أمها التي ماتت من ثلاث سنوات، صرخت فجأة كالملدوغ: يا أمّي.. يا ويلي.. ارحميني..
تعالي الله يخلّيكِ..
كانت تُمسك في تلك اللحظة بكومة من الرمل في قبضتها،
وما لبثت قبضتها أن تراخت وتدفّقت حبات الرمال على ثوبها، أمسكت بشعرها المغبر، ثم
احتضنت جردل الماء الفارغ وتعالى صوتُها بالنشيج المفجع.. كان قلبها يخفق بنبضات
متزايدة، تتدافع أنفاسُها اللاهئة في الفراغ لتُحاكي أغنية حزينة طالما سمعت أمها
تردّدها عندما تجور عليها الأيام وتصبح الحياة سوداوية قاتمة، كانت تلجأ لهذا الصوت
الذبيح:
وا تلّ قلبي مثل غصنٍ ايتلّي
تقطّعت بالبين حاله وحالي
تسعين
لعنة كلّهن وقفنْ لي
وتجمّعن مثل الجبال العوالي
على كتوفي خيّمن وحفرنْ
لي
لحدْ الشقاوة والبلى والهبالي
من عقب ما ني صايمة بس أصلي
أعرضت أنا من
حرّ شيٍّ جرا لي
كانت أصداء الأغنية تترنّح في أنحاء المنزل عندما كانت الأم
ترددّها وهي معصوبة الرأس لمّا قُتل أخوها الوحيد ولم تجد له العون من أحد فاستسلمت
للصوت الشجي والعصابة السوداء التي تُحافظ على الرأس المنهك من الانفجار.. لا تزال
هذه الصورة تترآى أمامها الآن في هذا المكان المقفر ونبرات أمّها تنزّ في دمها
فتزداد ألمًا وتمتلئ بالتعاسة والخيبة المتواصلة.. جلست ويداها تُحيطان بساقيها
المضمومين إليها بشكل متماسك وكأنها تتجمّع في جسدها لتُبقي على ذاتها بذاتها
وتُدافع الخوف بهذه الصورة، ظلّت الدموع تنهمر حتى تُشرف على الأرض.. تفاجأت بأن
الجمل يقف بجوارها صامتًا وكأنه يُراقب حالها.. أطالت النظر إليه بعيون كليلة ونفس
صدئة محطّمة وهي تشعر أن هذا الجمل هو سندها الوحيد في هذه الغربة الموحشة مع
الصحراء، تحتمي به وتلوذ بظهره ليحملها إلى أي مكان يوصلها إلى أهلها في الصباح.
لكن متى يأتي الصباح؛ تلففت بعباءتها والهواء يُصدر حفيفًا يتسلل مع الظلام القادم،
ولا ترى في هذا المكان سوى طلحة بعيدة تُعانق أغصانها العراء. فكرت أن تُوقد نارًا
تتدفأ حولها لكنّها نبذت الفكرة لأنّها الآن ليست مهيأة للبحث عن الكبريت أو عمل أي
شيء..
بدأت تمضع ريقها بصعوبة وهي تحسّ بالجفاف الحادّ في كامل كيانها، ثمة
قحط في عينيها ورمادٌ يأكل شفتيها، لكنّها تنظر للأمل –الذي سيُرطب جفافها – بشوق
ولهفة كبيرة.
استعادت لحظات قدومها للبر، وقامت بتحليل الزمن وهي تلعن في
سرها الفكرة التي جعلتها تأتي هذا المكان، لكنّها وجدت أنّ الأمور تمت خارج
إرادتها، قال الأب في الصباح: «يا الله يا بنتي مشينا».
-وين؟
-للبر، اليوم
خميس وراحة نبي نشوف الفضا.
-أبشر.
أركبوا الجمل الصغير المربوط في طرف
المنزل؛ يكفي أن يُفتح له باب السيارة ليركب كالعادة ليرعى في الخلاء. كان أخوها
صامتًا لم يتكلم طوال الطريق وكأنّ ثمة سرًا يُخفيه عنها، وكان أخوها هو الذي يقود
سيارة الوانيت، وبجواره الأب الذي راح يتحدث مع ابنه بصوت هامس لا يلبث أن يتوقّف،
شكّت أن موضوعًا يدور بينهما لكنّها لم تُعنَ به آنذاك، وظلّت تُراقب الطريق وهي
جالسة في المقعد الخلفي للسيارة؛ أما الآن فإن ذلك الكلام الذي دار بينهما يعنيها
بلا شك..
انهمرت الدموع على خدّها الرقيق، مسحتها بالعباءة وازدادت بكاء
لما تذكرت ما حصل لإحدى البنات في بلدتها عندما رماها أهلها في الصحراء لأنها
"فاسدة" كما يقولون،لكنّها طمأنت نفسها فلم تكن هي إلا طاهرة نقية طوال حياتها،
وأمّها خير من يعرف ذلك، لكن أين أمها الآن لتراها؟ لقد قال أبوها في الأسبوع
الماضي: «والله إن شفتك عند الباب لأذبحك، حنّا طول عمرنا شريفين ومستورين!». كانت
الكلمات قوية وصارمة؛ لكنّها حملتها محمل التهديد والوعيد التي دائمًا ما يقولها
الآباء وظنت أنه لا يقصد سوءًا.. أما الآن فقد اسودّ الكون أمام ناظريها وملأت
الظلمة بقاع الصحراء وضاقت الأرض بها فشعرت أن الهواء قد نفد حتى بوجود هذه الريح
القارسة.. تلفّعت بالوجع الموغل في دمها والذي ينخر عظامها وهي تستدعي تلك المواقف
التي صار تفسيرها الآن كالحًا ومؤلمًا وتخشى أن يكون هناك شيء لا تعرفه، صرخت؛ لكي
تُخيف هذا الليل المتكوّر حولها..
رفعت رأسها للسماء، فرأت النجوم تُطلّ من
وراء السحب الداكنة،ولا تلبث أن تتوارى، تمنّت لو أنها نجمةٌ بعيدة عن الشقاء
والحزن والصحاري، شعرت بحنق مكتوم في أعماقها تجاه أبيها، لكنها لا تود أن تبوح به
لنفسها، صارت صورته تتداعى أمامها بالقبح والشؤم والخزي، بيد أنها تُصارع هذه
الأفكار المتضاربة وتُقاوم حضورها القويّ في ذاكرتها، لقد صارت حقيقة تعوي بداخلها
بالويلات المتلاحقة.. أزاحت خصلة شعرها المتدلية بفعل الرياح العنيفة.
كانت
يدها على صدرها فلمست نبضًا حارًا وعنيفًا يكاد يمزق أحشاءها.. الظلمة حالكة، شعرت
أن شيئًا يلمسها، هبّت واقفة مذعورة، لم تستطع الالتفات، حاولت الإمساك باتزانها
المتهالك؛ لكن الجسد الضخم بدأ يحيط بها ويكاد يقبض عليها من جميع الجهات، التفتت
بفزع فإذا الجمل يدنو منها، لطمته وعيناها تتطلعان وراءه، لكنه لم يصد عنها، ينبع
من عينيه وهجٌ قوي يكاد يمتصّها. لاحظت أن بطنه يرتجف والزبد يتلاطم في فمه؛ صار
صوت أنفاسه أزيزًا مخيفًا، ابتعدت عنه قليلا فعاد إليها فاغرًا فمه، صرخت، فانقض
عليها فهربت مذعورة تجاه الطلحة التي رأتها قبل غروب الشمس، ولكنّ أحشاءها كانت قد
تناثرت على أغصان الطلحة وغطت دماؤها الرمال التي عزفتْ مع الموت في ذلك المساء
ألحانَ الصخب والفجيعة.